“عشتار”.. بوابة بناها الملك ودفنها الوقت

أسماء حمدي

كتبت – أسماء حمدي

“أرادوا من خلال بنائهم برج بابل الشهير أن يصلوا إلى السماء تكبرًا وخيلاء فعوقبوا على صنيعهم وبلبلت ألسنتهم فعجزوا عن فهم بعضهم البعض”، واحدة من حكايات كثيرة متضاربة تروى عن مدينة “بابل” العراقية وحضارتها المليئة بالألغاز والتشويق والغموض.

اشتهرت مدينة “بابل” بحضارتها، ولكن أبرزها هو أبنيتها العجيبة، وقد ارتبط كل من برج بابل والحدائق المعلقة بالمدينة في العديد من النصوص التاريخية والمقدسة، مما دفع اثنان من علماء الآثار في الجمعية الشرقية الألمانية، بالذهاب إلى بابل في مارس 1899، وهما “روبرت كولدوي ووالتر اندراي”، بهدف استكشاف المدينة الرائعة التي بناها نبوخذ نصر الثاني من القرن السادس قبل الميلاد.

اكتشف العلماء المدينة المذهلة والتي كانت غنية بالفن والهندسة المعمارية، ومن بين الآثار التي اكتشفوها كانت بوابة “عشتار”، التي شيدت من الطوب المزجج النابض بالحياة والمكسو بالمرمر الأزرق والرخام الأبيض والقرميد الملون، وكانت مزينة بـ  575شكلا حيوانيا بارزا منها التنين والثيران، وعلى جدرانها تماثيل جدارية تمثل الأسد والثور، وكانت البوابة تعتبر واحدة من إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم حتى القرن السادس إذ تم استبدالها بمنارة الإسكندرية.

الانطباعات الأولى

صممت بوابة “عشتار” المدخل الرئيسي للمدينة بطريقة مذهلة لتترك في نفوس كل من يراها شعور بالإجلال والهيبة، وبنيت على هياكل سابقة اقيمت في عهد والد نبوخذ نصر الثاني، الملك نو بو لاسار (626 – 605 قبل الميلاد).

وبوصفها البوابة الرئيسية للمدينة، شكلت بوابة عشتار الضخمة رمزا للروعة التي تزخر بها المدينة، وقام الملك البابلي بتركيب لوحة على البوابة موضحا الغرض من تصميها: “لقد وضعت الثيران البرية والتنين الشرسة في البوابات، ومن ثم زينتها بروعة وفخامة لكي ينظر الناس إليها في عجب”.

حقق تصميم البوابة الهدف منه ليس فقط من حيث الحجم ولكن من خلال اللون الجريء والحرفية الدقيقة، وعلى الرغم من أن عشتار، هي إلهة الحب البابلي والخصوبة والحرب، لكنها من الآلهة التي ارتبط اسمها بالبوابة.

اكتشاف البوابة

في عام 1899 قبل بدء الحفر رسميا، عثر كولديوي خلال زياراته الأولى إلى بابل في يونيو 1887، والثانية في ديسمبر 1897، على شظايا ذات ألوان زاهية من الأحجار المصقولة التي يُعتقد أن جدار المدينة كان يتشكل منها، واستمر الحفر لمدة 15 عاما دون انقطاع حتى توقفت الحرب العالمية الأولى.

خلال هذا الوقت، بدأت المدينة القديمة في الكشف عن أسرارها، واكتشف كولديوي وفريقه اكتشافات ضخمة، منها بوابة عشتار، والطريق الكبير في المدينة، والمعابد بما في ذلك قصر الملك نبوخذ نصر الثاني، والزقورات وهي عبارة عن معابد مدرجة كانت تبنى في سوريا والعراق ومن أشهر الزقورات عالميًا هي زقورة أور في العراق.

جمع علماء الآثار عشرات الآلاف من قطع طوب الخاص بالبوابة، وهو ما يكفي لملء 900 صندوق، وعندما تسببت الحرب العالمية الأولى في فوضى في أوروبا والشرق الأوسط، اضطر الفريق الألماني الذي كان يقوم بعمله إلى إخلاء المدينة، وتم نقل صناديق قطع الطوب من بابل إلى جامعة بورتو في البرتغال.

بحلول عام 1926، بعد وفاة كولدوي في عام 1925، تمكن أندريه من إقناع الجامعة بشحن الصناديق إلى برلين، وعين أندريه مدير متحف الشرق الأدنى القديم (قسم من متحف بيرغامون)، ومن ثم اتخذ القرار الجريء بإعادة بناء الجزء الخارجي من بوابة عشتار الرائعة في مجملها، وبدأ المشروع الطموح في عام 1928.

حل اللغز

وبدأ التحدي الهائل في محاولة لحل اللغز وأعيد جمع أجزائها لتصبح كتلة واحدة من جديد، وقال أندراي: “كان لدينا دائما ستة أو سبعة أجزاء من كل وجه وكان علينا إعادة تكوينه بطريقة تناسب تكوين الشكل المطلوب، واستعادة رسومات الحيوانات التي رسمت على قطع الطوب الخاص بالبوابة”.

وفي هذا السياق، كتب كولدوي أن بوابة عشتار “بجدرانها التي مازالت تنتصب بارتفاع 12 مترا، والمكسوة بالنقوش الزخرفية، تشكل الأثر الأكبر والأكثر لفتا للانتباه من بين آثار بابل”.

وشهدت الفترة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية، عمليات تنقيب أخرى واسعة النطاق، قادها هذه المرة علماء آثار إيطاليون، بعد ذلك بعقود، أتى عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، الذي تولى الحكم عام 1979.

وعلى أسس المعالم الأثرية القديمة، شيد الرئيس العراقي الراحل نسختين لبوابة عشتار، ولقصر نبوخذ نصر، كما أنه استوحى النمط المعماري الخاص بالملك البابلي، ليترك نقوشا تُخلّد ما شيده هو في ذاك الموقع الأثري.

وعادت يد الإهمال لتطال مدينة بابل الأثرية مرة أخرى مع دخول الغزو الأمريكي إلى العراقي عام 2003 حيث حوّلت القوات الأمريكية والبولندية منطقة الحفريات الأثرية في البلدة القديمة، بما في ذلك بوابة عشتار وطريق الموكب ومعبد ننماخ، إلى قاعدة عسكرية.

وقدرت دراسة أجراها المتحف البريطاني، الأضرار الجسيمة التي لحقت بتلك المنطقة، بنحو 300 ألف كيلومتر مربع (4 آلاف فدان) من هذا الموقع باتت مغطاة بالحصى المستخدم في تعبيد الطرق، وهو الحصى الذي لوّث كذلك المناطق التي لم تُجر فيها عمليات تنقيب من قبل.

ربما يعجبك أيضا