البريكسيت وسياسة قفز بريطانيا للمجهول

أميرة رضا

ترجمة بواسطة – آية سيد

أعلنت بريطانيا رسمياً عن انسحابها من الاتحاد الأوروبي.. لم يسبق أن قررت دولة متقدمة من تلقاء نفسها أن تنسحب من إتحاد سياسي واقتصادي له آثار جيوستراتيجية مهمة, ومن دون هزيمة عسكرية أو ثورة سياسية.

نحن نعرف الكثير من الأمور عن جلب أعضاء جدد إلى التحالفات والعلاقات التجارية, لكننا لا نعرف الكثير عن تفكيكها بصورة سلمية. وحيث أن مغادرة بريطانيا للإتحاد الأوروبي تتعلق بإضافة حواجز أكثر من هدمها, سوف تكون بمثابة قفزة إلى المجهول.

سوف يتأثر الشكل المستقبلي لأوروبا, وعلاقة الولايات المتحدة بها, بالعلاقة بين المملكة المتحدة وبقية الإتحاد الأوروبي بعد البريكسيت, وبتماسك الـ27 دولة الباقية وسياساتها.

هل ستنتصر القومية كنزعة مهيمنة على أوروبا لبقية العقد؟ هل ستخسر الولايات المتحدة أوروبا كشريك فعال في محاربة التطرف والإرهاب في الشرق الأوسط, أو في قيادة مجموعة العشرين في توطيد النظام الاقتصادي العالمي؟ ماذا ستكون الآثار على إلتزامات الناتو, أو الولايات المتحدة بحماية أعضاء الناتو من العدوان؟

أيّد المصوتون البريطانيون البريكسيت في استفتاء يونيو الماضي, لكن المفاوضات حول "كيف" سيحدث هذا و"ماذا" سيعقبه بدأت لتوها.

يوجد إطار عمل جزئي: بدأت بريطانيا اليوم بتقديم إخطار بموجب المادة 50 من معاهدة الإتحاد الأوروبي, وذلك لبدء المفاوضات حول بنود الانفصال –وبشكل رئيسي البنود المالية. من المقرر أن تنتهي هذه المفاوضاتخلال عامين, إلا إذا تم تمديدها بواسطة دول الإتحاد الأوروبي الـ27 بالإجماع.

سواء تم التوصل لاتفاق أو لم يتم, وما لم يمدد أعضاء الإتحاد الأوروبي العملية بالإجماع, أصبحت بريطانيا خارج الإتحاد الأوروبي. لم تذكر المعاهدة كيف ستتم صياغة الاتفاقيات من أجل متابعة العلاقات.

تمتلك دول الإتحاد الأوروبي الـ27 وبريطانيا أهداف متضاربة. إن المصلحة الأساسية لدول الإتحاد الأوروبي الـ27 هي ضمان أن تكون علاقة بريطانيا المستقبلية مع الإتحاد الأوروبي أسوأ من العضوية لكي لا يرغب أي عضو آخر في الانسحاب. بينما مصالح بريطانيا الأساسية هي استعادة السيطرة الكاملة على الهجرة (يجب عليها الآن السماح لمواطني دول الإتحاد الأوروبي الـ27 بدخول بريطانيا والعمل بها بحرية), وأن تصبح خارج السلطة القضائية لمحكمة العدل الأوروبية وقوانين المفوضية الأوروبية.

التقويمات السياسية أيضاً لا تتفق. تتخذ الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي, القلقة من "التأثير المُعدي" للبريكسيت, موقفاً متشدداً من المملكة المتحدة لكي لا تشجع الناخبين المتشككين في الإتحاد الأوروبي في انتخابات 2017 في هولندا (هذا الشهر), وفرنسا (مايو-يونيو) وألمانيا (سبتمبر).

وهكذا جانب الإتحاد الأوروبي على الأرجح لن يصبح جاداً حول مفاوضات العلاقة المستقبلية حتى نهاية 2017 على أقل تقدير. الممكلة المتحدة متلهفة على احتواء الأمور قبل انتخاباتها العامة القادمة في 2020, ولهذا قررت الحكومة تقديم إخطار المادة 50 الآن.

في خطاب كبير يوم 17 يناير, أوضحت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أهداف حكومتها من البريكسيت بعد استعادة السيادة. قالت أن بريطانيا لا تريد أن تصبح "نصف في الداخل ونصف في الخارج," وإنما "تريد اتفاقية شاملة وجريئة وطموحة," والتي توفر "أكبر قدر من التجارة الحرة في البضائع والخدمات بين بريطانيا والدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي."

إدراكاً منهم لهدفهم بعدم تسهيل خروج بريطانيا أو جعله مفيداً لها, يتحدث قادة دول ومؤسسات الإتحاد الأوروبي بحدة. يقول كبير مفاوضي الإتحاد الأوروبي أن الإتحاد الأوروبي يجب أن يتوصل لاتفاقية حول انفصال منظم (تم ذكر رسوم خروج تصل إلى 60 مليار دولار) في محادثات الانسحاب قبل البدء في بحث علاقة اقتصادية وسياسية جديدة. يتحدث شركاء الإتحاد الأوروبي أيضاً عن "تعقيد" اتفاق التجارة الشامل, يتصورون إنه ربما يستغرق سنوات لإتمامه.

هل الانفصال الجدلي, المدمر اقتصادياً بين المملكة المتحدة والإتحاد الأوروبي أمر حتمي؟ هل المحادثات حول علاقة تجارية واقتصادية جديدة معقدة وطويلة بالضرورة؟ إذا كانت كذلك, ربما ينحدر اقتصاد المملكة المتحدة في اليوم الذي تغادر فيه الإتحاد الأوروبي, وبذلك تخسر جميع المزايا الاقتصادية لتجارة الأسواق الداخلية في البضائع والخدمات, ومزايا اتفاقيات التجارة الحرة الأوروبية القائمة مع الدول الأخرى.

ما نحتاج إليه هو طريقة أخرى لجعل المفاوضات تتعامل مع مشكلة التوقيت, ومشكلة الإتحاد الأوروبي السياسية. بينما يحدث هذا, هذه المفاوضات ليست مثل أي مفاوضات تجارية حدثت من قبل. كل مفاوضات التجارة في عالم ما بعد الحرب حتى الآن كانت تتعلق بخفض الحواجز أمام التجارة والاستثمار, أو وضع قواعد للتجارة والتي كثيراً ما تأتي بآليات لتسوية الخلافات من أجل زيادة مصداقيتها.

لكن مفاوضات الإتحاد الأوروبي-المملكة المتحدة ستدور حول تغيير أساس السوق الخالية من الحواجز الموجودة حالياً, "السوق الأوروبية الموحدة" للبضائع والخدمات. في حين أن السوق الموحدة معيبة (خاصة في قطاع الخدمات), إلا إنها أكثر شمولية من أي علاقة اقتصادية مماثلة أخرى وتسمح للشركات البريطانية والأوروبية بالتجارة والاستثمار في أسواق بعضهم البعض بدون التفتيش, أو فرض حصص, أو رسومعلى الحدود. تُطبق لوائح مشتركة على سلامة المنتجات ومعاييرها.

في حين إنه لم يُفعل هذ الأمر من قبل, إلا إنه من حيث المبدأ قد يكون أسهل سياسياً وتقنياً وضع اتفاقية تجارة حرة لإضافة حواجز مختارة إلى سوق خالية من الحواجز أكثر من إزالتها.

أحد الأسباب هو أن خفض حواجز التعريفة الجمركية والحصص تؤثر بالسلب على المصالح الاقتصادية المكتسبة من خلال إخضاع الشركات لمنافسة جديدة. بينما رفعها يضر بالتأكيد بعض الشركات التي تعتمد على المنتجات المستوردة, لكنه سيخلق على الفور مؤيدين يرون أن منافسيهم الأجانب أقل حظاً.

إن التفاوض على اتفاقية تجارة حرة بين الشركاء الذين يمتلكون حواجز جمركية وأنظمة تنظيمية مختلفة يستغرق وقتاً طويلاً جزئياً لأن المزارعين والمصنعين يخافون من المنافسة الجديدة التي ستنشأ. يُعد هذا سبباً رئيسياً للصعوبات التي واجهها المفاوضون حول اتفاقية الشراكة التجارية والاستثمارية العابرة للأطلسي بين الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي, التي تضمنت اختلافات حول سلامة الأغذية, والسيارات, والأصناف الزراعية (خاصة المعدلة وراثياً), ومبيدات الآفات, وهذا على سبيل المثال لا الحصر للعوائق التنظيمية.

على النقيض, ينبغي أن تدور الاتفاقية الجديدة بين الإتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة حول إيجاد أساس جديد لممارسة التجارة الحرة, وللحفاظ على أطر العمل التنظيمية القائمة. ينبغي أن يكون هذا أكثر سهولة. من المؤكد أن الإتحاد الأوروبي سيريد أن تطبق بريطانيا معايير الإتحاد الأوروبي الخاصة بالمنتجات والبيئة.

المصالح المكتسبة بوجه عام سوف تعارض الحواجز الجديدة لإنها ستحطم سلاسل القيمة المتكاملة القائمة, أو ستضر شبكات بيع التجزئة الموجودة في كلا الجانبين. إن كل ما يحتاج الإتحاد الأوروبي وبريطانيا فعله هو التأكيد بأن العناصر الأساسية لهذا النظام والعمل يمكنها أن تتدفق كما تفعل الآن.

لذلك التحدي الذي يواجه الإتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة سياسي بشكل رئيسي. يريد الجانبان العلاقة الاقتصادية أن تبدو مختلفة. تريد المملكة المتحدة أن تُظهر للجمهور البريطاني أن الدولة تحررت من قبضة بروكسل, ويريد الإتحاد الأوروبي أن يُظهر للجمهور الأوروبي أن بريطانيا أصبحت في حال أسوأ. لكن على عكس الولايات المتحدة-المكسيك, لا يوجد جمهور حقيقي لرفع الحواجز الرئيسية الجديدة للتجارة (التعريفة الجمركية أو غيرها) بين المملكة المتحدة والإتحاد الأوروبي. في الواقع, تعتمد قطاعات كبرى من الصناعات البريطانية والأوروبيةمثل السيارات, والصناعات الدوائية, والطائرات على سلاسل القيمة عبر القنوات.

إذن مهمة المفاوضين الأوروبيين والبريطانيين هي تغيير الأساس السياسي لعلاقتهم الاقتصادية كلياً, لإظهار أن المملكة المتحدة خرجت من الإتحاد, ودفعت ثمناً من ناحية إمكانية الدخول, لكن فعل هذا بدون إفساد العلاقة الاقتصادية.

هذا سيتطلب بعض الخدع ودراما التفاوض, لكنه ليس مهمة صعبة وعلى الأقل لا يواجه المعارضة الحمائية التي يثيرها التحرر في الأماكن الأخرى.

إذا نجح البريطانيون والأوروبيون, قد يساعد هذا في إضعاف القومية المرتبطة بانتقادات اتفاقيات التجارة في المناطق الأخرى (من بينها الولايات المتحدة), ويساعد في طمأنة الأمريكيين بوجود أوروبا قادرة على مشاركة أعباء القيادة العالمية.

للاطلاع على المصدر الأصلي.. اضغط هنا

للإطلاع على الموضوع الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا